الأحد، 7 مايو 2023

تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ﴾ [التوبة]

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾ [التوبة]

والنَفْر، هو: التباعد.

يقال: نَفَر القوم، أي: تباعدوا. ونفرت الدابة، أي: تباعدت.

لذلك قيل لمن خرج عن قومه أو قريته: نَفَر. أي: تباعد عن قومه وقريته.

فمعنى قوله تعالى: ﴿لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ﴾ [التوبة] أي: ليتباعدوا كلهم. والمراد بالتباعد هنا، هو التباعد عن القوم والقرية للغزو والقتال في سبيل الله.

فتأويل الآية: ما كان المؤمنون لينفروا كافة للغزو والقتال في سبيل الله، بل ينفر منهم طائفة لذلك، وينفر طائفة أخرى، ليطلبوا العلم ويتفقهوا في دينهم، ليعلموا قومهم وينذرونهم ما حرم الله عليهم، فلا يقعوا في سخط الله تعالى من حيث لا يشعرون، فيحذرون من ذلك.

فأهل المدينة ينفر منهم طائفة إلى الجهاد في سبيل الله، وطائفة لطلب العلم والتفقه في الدين، وكذلك سائر القبائل والقرى، ينفر منهم طائفة للقتال في سبيل الله، وفرقة لطلب العلم والتفقه في الدين.

هذا ما تفيده الآية بكل وضوح، وأما ما عدا ذلك من تأويلات فهي تأويلات مرجوحة.

وطلب العلم الشرعي النافع، يقتصر على قراءة القرآن والأحاديث النبوية وتدارس معانيها، وفق لغة العرب، الصحيحة الصريحة، والابتعاد عن تلك الكتب التي يسمونها: الكتب الدينية، التي أحدثها المحدثون.

والله أعلم وأحكم.

تأويل قوله تعالى: (وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ) وقوله تعالى: (مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی)

قال تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِیُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَـٰهِرُونَ﴾ [الأعراف ١٢٧]

قلت: فكأن الآية تشير إلى أن فرعون كان قد اتّخذ له إلهاً يعبده.

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی فَأَوۡقِدۡ لِی یَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّینِ فَٱجۡعَل لِّی صَرۡحࣰا لَّعَلِّیۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّی لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ [القصص ٣٨]

قلت: وهذه الآية تفيد بأن فرعون لم يكن يدين بالعبودية للأوثان، بل إنه جعل من نفسه إلهاً يعبد.

والجمع بين الآيتين متيسّرٌ ولله الحمد.

فإن فرعون لعنه الله من أهل مصر، وأهل مصر كانوا يعبدون الشمس، والأصنام، ولكون فرعون من أهل مصر، فما يجري عليهم يجري عليه اسما أو حكما.

وهذا مثل ما نقول عن اليهود المبدلين لكتاب الله بأنهم يهود، مع أنهم ليسوا على اليهودية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولكنهم لما انتسبوا إليهم، استحقوا هذا الاسم دون الحكم.

وإنما اشتق اسم ملة موسى اليهودية، من الهَود، وهو الأوب، وهو الرجوع، والمراد به هنا: الرجوع من المعصية إلى الطاعة.

قال تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام: ﴿وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَاۤ إِلَیۡكَۚ﴾ [الأعراف ١٥٦] أي: أُبنا إليك.

فلأن أهل مصر اتخذوا من الشمس والأصنام، آلهة يعبدونها من دون الله تعالى، قيل بأنها آلهة لفرعون، كونه من أهل مصر.

وهذا مثل ما وصف الله تعالى به اليهود من أنهم قتلت الأنبياء، مع أنهم جميعاً لم يقتلوهم، بل قتلهم أسلافهم، وإنما لكونهم سائرون على طريق أسلافهم في الغواية، استحقوا هذا الوصف اسما لا حكما.

فكذلك فرعون، لما كان سائراً على طريقة أسلافه في الكفر والوثنيّة، استحق أن توصف آلهة قومه، بأنها آلهة له، اسماً لا حكما، لأنه في الحقيقة لم يعبدها، كما يظهر من الآية، بل إنه أسقطها ونصّب نفسه إلهاً لأهل مصر بدلاً عنها.

لذلك قال الله تعالى: ﴿وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ﴾ أي: يذرك فلم يعبدك كونك نصّبت نفسك إلهاً لأهل مصر، ويذر آلهة قومك، فلم يعبد ما عبده أسلافك وأهل بلدك من الآلهة، وجاء بعبادة إله لا نعرفه.

والله أعلم وأحكم.

تأويل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) .. الآيات

تأويل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)) [الفجر]

اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: (إرم ذات العماد) على أقوال عديدة:

القول الأول: أن إرم اسم أبٍ من آباء عاد، وأخذوا هذا القول مما ورد في كتب أهل الكتاب، حيث ورد فيها: أن سام بن نوح، أعقب خمسة بنين، أحدهم يدعى: أرام. فرجّحوا أن يكون أرام خطأ في الترجمة، وأن صوابه: إرم، ثم أرادوا الجمع بين عاد وإرم، فلم يجدوا إلّا أن يقولوا: بأن عاد بن إرم.

ولكن أهل الكتاب ذكروا في كتبهم، أن أراماً هذا، أعقب أربعة بنين، وهم: عوص، وحول وجاثر وماش. ولم يذكروا أن لأرام ولد اسمه: عاد! وهنا يأتي دور القصّاص، الذين لهم دور بارز في اختلاق الأنساب والوقائع، ليزعموا لنا، بأن عاد بن عوص بن أرام – الذي هي عند أصحاب هذا القول: إرم - بن سام بن نوح! وهو نسب كما يظهر مكذوب.

لذلك قالوا في تفسير قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) بأن الضمير في قوله: "ذات" وقوله: "التي لم يخلق مثلها" عائد إلى هذه القبيلة، التي تدعى: إرم، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على قولين:

الأول: أن معناها أن أفرادها متّصفون بأنهم ذوو العماد، والتي فسّروها بأن المراد بها أنهم ذوو طول فارع، وأنهم لم يخلق مثلهم في البلاد، في طولهم وجسامتهم، أخذوا ذلك من قول العرب: رجل طويلُ العِماد، إِذا كان مُعْمَداً، أي: طويلاً.

والثاني: أن معناها، أنهم أهل خيام، والخيام تقوم على العمد، أي: أنهم أهل حِلٍّ وترحال، كما تقول العرب عن أهل الخيام: أهل عِمَاد، وأهل عَمَد.

والثالث: أن معناها، أنهم أهل مجد وشرف، والعرب تقول: فلان رفيعُ العِمادِ؛ يريدون بذلك عِمادَ بيتِ شرفه، والعرب تضع البيت موضع الشرف في النسب والحسب.

وشذّ أخرون من أصحاب هذا القول، فقالوا: بأن إرم بن عاد، وأنه أشرف بطن في عاد! ولا أعلم لمن قال بذلك، دليل يعوّل عليه!

والعجيب أن محمد بن جرير الطبري، رجّح هذا القول، حيث قال في تفسيره: "وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل؟ فيترك إجراء نهشل، وهي قبيلة، فترك إجراؤها لذلك، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم، ولو كانت إرم اسم بلدة، أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمروُ زبيدٍ وحاتمُ طيء، وأعشى هَمْدانَ، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى" اهـ

وهذا الذي قاله، خطأ فاحش، لأسباب:

أولها: أن العرب لا تقول: تميم نهشل. بل تقول: نهشل تميم. للتمّييز بينها وبين ما يشبهها في الاسم من البطون الأخرى في القبائل الأخرى. ولا أدري من أين جاء الطبري بأن العرب تقول: تميم نهشل! ولكن لا يستغرب هذا من كتب اللغة، إذا علمنا أن أكثر من ألفها، هم من الأعاجم، وكثير منهم يرضخ من رأسه، ويؤلف كلاما للعرب لا تعرفه!

وثانيها: أن احتجاجه بقول العرب: حاتم طيء، على أن العرب تقول: تميم نهشل، باطل، لأن قول العرب: حاتم طيء، يصحّ أن يكون مثالاً على قول العرب: نهشل تميم، وليس العكس! لأن العرب تريد أن تميّز حاتماً عن غيره ممن يحمل نفس الاسم من الرجال المنتمين إلى القبائل الأخرى، بكونه حاتم طيء، مثلما أن العرب، تريد أن تميّز نهشل تميمٍ، عن غيره ممن يحمل نفس الاسم من البطون، بكونه نهشل تميم.

القول الثاني: أن المراد بـ "إرم" أي: القديمة، أخذوا ذلك من قول العرب: أرم، أي: لحقه البلاء، كما تقول العرب: أرمّت عظامه. أي: بليت.

القول الثالث: أن المراد بـ "إرم" أي: الهالكة، أخذوا ذلك من قول العرب: أرِم بنو فلان. أي: هلكوا.

ومراد أصحاب القولين الثالث والرابع، أن قوله (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) هو وصف لعاد، ومضاف إليه، فهي: قبيلة أو مدينة قديمة هالكة، كانت ذات مجد وشرف، ولم يخلق مثلها في البلاد، قوةً وشجاعةً وربما طولاً وضخامةً في أجسامهم.

القول الرابع: أن إرم اسم مدينة، وهؤلاء يفسرون قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) بأنه وصف لإرم، التي هي عندهم مدينة، أي: إرم المدينة ذات البناء الرفيع. والعرب تصف الأبنية الرفيعة، بالعِماد. والواحدة عمادة.

وقد يكون قوله تعالى: (ذات العماد) المراد به، ذات المجد والشرف، فالعرب يصفون المدينة بذلك، كناية عن أن أهلها أهل مجد وشرف.

وربما كانت عاد اسم قبيلة ومدينة في آنٍ معاً، لأنه عرف عن العرب قديماً، أنهم قد يطلقون أسماء قبيلتهم على مدينتهم، فتحمل مدينتهم اسم قبيلتهم، وعلى هذا فإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، هو وصف لعاد القبيلة والمدينة.

إلا أن أصحاب هذا القول، تخبّطوا في تحديد مكان هذه المدينة، فبعضهم قال: هي دمشق. وبعضهم قال: هي الإسكندريّة. وبعضهم قال بأنها مدينة كانت بالرمال الواقعة جنوب الجزيرة العربية، بين حضرموت وعمان، وتعرف بالرملة، ولا أعلم أن أحداً من أصحاب هذه الأقوال، جاء بدليل بيّن على ما يدعيه، إنما هم يظنون ظناً، والظن لا يغني من الحق شيئا.

والراجح من هذه الأقوال، أن الوصف المذكور في الآية، يراد به مدينة، كانت قبيلة عاد تتخذها عاصمة لها، سواء كان اسم هذه المدينة عاد أو كان اسمها إرم، وقد بيّنت سابقاً أن القول بأن إرم اسم قبيلة، قولٌ ضعيف، يُرْغب عنه.

وزيادةً على ذلك، فإن في القرآن العظيم، ما يرجّح أنها مدينة، هو قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) من البناء، أي: أن عاد كانوا قوماً حاذقون في بناء الأبنية، فإذا نظرنا في هذه الآية، وتمعنّا في قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) ترجّح عندنا أن ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، هي وصف لمدينة، بناها قوم حاذقون في بناء الأبنية.

فيكون معنى قوله تعالى: (ألم ترى كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) أي: ألم ترى كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم ذات العماد. أو قد يكون معناها: ألم ترى كيف فعل ربك بقبيلة عاد الذين يقيمون بمدينة إرم ذات العماد. كل هذه المعاني واردة.

والله وحده أعلم بالصواب.